المحمل المصري .. طقس قديم من طقوس الحج الإسلامي

صحيحٌ أن الحج عبادةٌ فرضها الله على عباده المسلمين، فيه يزيدون من أواصر الروحانية التي تربطهم بخالقهم، فيحجّون إلى مكّة ليطوفوا حلقاتٍ إثر حلقاتٍ حول كعبتها. إلا أنه يعتبر أيضاً لدى المسلمين موسماً له طقوسه واحتفالاته وعاداته التي منها القديم، ومنها الجديد، منها الباقي ومنها الذي انقرض. إحدى هذه الطقوس التي استمرت قروناً إثر قرون، قبل أن تختفي في القرن العشرين، هي التي تسمى بموكب المحمل المصري.

كان حجّاجُ المغرب العربي وإفريقيا والأندلس يخرجون إلى الحج مبكّرين، وذلك في وقتٍ يضمنون فيه الوصول إلى مِصر في أواخر شهرِ شوال، حيث تقام فيه إحتفالاتُ موكب المحمل المصري قبل خروجه إلى الحجاز، فيكونون هم أيضاً في ركب هذا الموكب.

والمحمل المصري ليس إلا  قافلة الحج المصرية التي تحمل معها من مصر الكسوة الشريفة التي كانت تُكسى بها الكعبة. ولجل ما في الأمر من تشريف، فإن خروج هذه القافلة كان موسماً مقدساً لدى المصريين، تقام فيه الإحتفلاتُ، ويتم فيه تزيين أرجاء المدينة ومحالها وأركنتها.

كانت الكسوة الشريفة تبدأ رحلتها من موضعٍ في مدينة القاهرة يسمى بالخرنفش، وهو المشغل الذي كانت تصنّع به، والذي كان له طوال فترات الحكم الإسلامية مخصصات وأموال، وفي بعض الأوقاتِ حتى أوقافٌ، وذلك من أجل الإنفاق عليه. وكان هنالك مسؤولٌ عنها، يتم توظيفه من قبل الدولة، ويسمى بناظر الكسوة.

بعد تجهيزها، كانت الكسوة الشريفة توضع في صناديق خشبية تحميها، لتحملها الجمالُ في موكب الحج المنطلق إلى الحجاز. أما رمز هذا الموكب، فكان ما يسمى بالمحمل المصري، والذي هو عبارة عن هودج خشبي مخروطي الشكل، مزينٌ بأجمل الأشكال والألوان.

كانت مناسبة خروج المحمل من مصر واحدة من جملة الأعياد المصرية التي كانت تسمى بـ “دوران المحمل“، حيثُ كان المحمل يطوف القاهرة مرتين قبل رحيله، مرةً في شهر رجب، ومرة في شهر شوال وذلك في أيامٍ من آخر الشهر، تستمر حتى الثلاثة أيام. في هذه الإحتفالات، كان المحمل يتقدم الموكب بقيادة من كان يسمى بـ “أمير الحج“، تلحقه الجمال التي تحمل الكسوة الشريفة والمياه والحجاج وأمتعتهم، يحيطهم عشرات الجنود لحمايتهم، ويتبعهم موكبٌ ضخم من الدراويش الصوفية وهم يدقّون على الطبول والدفوف، ويرددون بأصواتٍ واحدة عالية الهتافات والأناشيد الدينية، التي يزدان وسطها شيخُ كل طريقة صوفية على حدى. وفي بعض الأوقات، كان يتقدم الموكب مهرجين لإضحاك وتسلية الحشود الملتفة والملتحقة والمشاهدة لهذا الموكب، وكانوا يسمون بـ “عفاريت المحمل“.

كان يحضر هذه المناسبة والي المدينة، أو من ينوب عنه، وكان يستقبل المحمل عند وصوله مكة أميرها ليكون أول من يستقبل كسوة الكعبة الجديدة، وتقول القصص التاريخية أنه كان من العادة أن يقوم الأميرُ بتقبيل حافر الجمل الذي يحمل الكسوة. وبعد انتهاء الحج، يعود المحمل إلى مصر حاملاً كسوة الكعبة القديمة ليتم تقطيعها وتوزيعها على النبلاء والأمراء الذين عملوا على تزيين أضرحتهم بها كنوعٍ من التبرك، ولم تزل بعض هذه القطع موجودة في متحف كسوة الكعبة.

وقد وصف عدة من المفكرين والرحالة هذا الطقس، كإبن بطوطة الذي وصف يوم خروج المحمل من القاهرة باليوم المشهود. ويختلف المؤرخون عن الزمن الذي بدأ منه هذا الطقس الديني، ولكن على الأغلب فإنه قد بدأ في زمن المماليك البحرية (منتصف القرن الثالث عشر ميلادي – السابع هجري).