إيمان مُراد تعلّمُ العالم أن الإعاقة طاقة .. وتمارس الكاراتيه من على كُرسيها المتحرك

لا ينفكُ صوتها يقول ” الإعاقة طاقة ” .. ودائماً ما تحملُها هذه الكلماتُ إلى ذكرياتِ الطفولة، خاصة إلى والدتها التي لقنتها إياها حينها .. فلم تفهمها إلا في زمنٍ لاحق، عندما أصبحت هذه الكلماتُ واقعاً تعايشُهُ وحقيقةً تمارسُها أمام عيونِ العالم.

تقول “الإعاقة طاقة”، فتداهمها أقدمُ ذكرياتها، إلى أول يومٍ وأسبوعٍ وشهرٍ من المدرسة، لم تدخل الحضانة لإنه كما قيلَ لها أصابها شلل الأطفالِ وهي رضيعة، فأفقدها القدرة على تحريكِ جزئِها السُفلي. تستحضر في ذكرياتها الأولى هذه مشاعرها، فتقول أنها لم تكن “مبسوطة”، فكلُ من حولها من الأطفالِ يلعبُ ويقفزُ ويتحرك، وهي “بشقاوتِها” الطفولية تحاولُ ولا تستطيع. كانت تذهبُ إلى أمِها تبكي، فتُشير الأم إلى قلبِها وتقول “عارفة قلبي بدق يقول إيه؟” “ده بدق ويقول إنه هو بحب إيمان… وإنو الله بحب إيمان، وإنه إعاقتك دي نعمة كبيرة منه”، “إزاي يا ماما؟” .. “لإنه إعاقتك دي مش حاجة وحشة، إعاقتك دي هي كل الحاجات الحلوة .. إعاقتك دي طاقة”.

في المرحلة الإعدادية، اشترت لها أمها كرسياً متحركاً، فقد كانت إيمان مُراد قبل ذلك تذهبُ إلى المدرسة الإبتدائية محمولة بين يدي والدتها. علّمتها أُمها كيف تستخدمُ الكرسي بنفسها، كيف تجلسُ عليه بنفسها، كيف تنهضُ منه بنفسها، وكيف أنها ستذهبُ إلى المدرسة بنفسها دون أمها. ظنّت إيمان في البداية أن أمها تقسو عليها.. كان ذلك قبل أن تعرفَ أن هذا لم يكن إلا الدرس الثاني الذي سيمهدها لتكونَ إيمان التي يراها من يعرفُها اليوم أيقونة للتحدي والقوةِ والإيمان بالنفس. علّمتها والدتها أن على إيمان أن تكون المساعدَ والمعيل الأول لنفسها، وأنها حين تفعلُ ذلك ستُدركُ عمق فكرةِ “العطاء”.. وأن من يمدُ يديه ليساعدَ غيره فهو يقدمُ بذلك من نفسهِ الكثير: كُن معطاءاً لنفسكَ لتكون معطاءاً للجميع.

كانت والدتُها هي مدرسةُ إيمان الحقيقية، التي ما زالت تعاليمُها حاضرةً فيها، وما زالت إيمان متفوقةً في أداء مناسكِها. في السنة الأولى من الجامعة بعد أن أنهت المرحلة المدرسية بتفوق، اختارت أن تدرس في كلية الآداب، إلا أنه في السنة الثانية رأت أن ما ستحبُهُ حقاً هو أن تدرس الحقوق، فدرسته وتخرّجت منه بتفوق. كانت سنواتُها الجامعيةُ حافلة، وعلمتها الكثير.. كوّنت إيمان في الجامعة فريقاً للكشافة، وكانت الجامعة أول مكانٍ تتعرف فيه على غيرها من الأشخاص ذوي الإعاقة. ورغم إنشغالها بأيامها الجامعية، واعتمادها على نفسِها الذي زاد كلما زاد وعيُها وإدراكها وفِكرُها، فلم تنسى أن تُدرك وتقول أن أُمها في هذه الأيام كانت هي “سندُها الرئيسي”.

في سنتها النهائية من الجامعة، توفيتْ والدتها. تذكُرُ إيمان أنه حينها استطاعت أن تستشفَ من عيون الناسِ الشفقة، “هي هتعمل إيه من دون أمها؟” .. كان أمامها خيارين، إما أن ترضخ للضعفِ الذي تبثّه هذه العيون، أو أن تكون إيمان التي هيأتها أمها أن تكونها، وأن تجيبَ صدى صوتِ أمها في داخلها الذي يقول “ما تخليش حد يشفق عليكِ”. رفضت أن تترك بيتها المجهّز ليناسب راحتها ووضعها، وأكملت طريقها لتكون إيمان.

استطاعت إيمان أن تعمل في جورنال بعد تخرُجها لمدة سنة ونصف، وعملت بعدها في جمعيات ومؤسسات المجتمع المدني لتوعية الناس بقضايا الإعاقة، وهُنا جاءتها رياضة “الكاراتيه” بمحض الصدفة. كان ذلك في بدايات عام 2014، حين كانت تمارسُ عملها كمحامية مع أحد زملائها الرياضيين من ذوي الإعاقة البصرية، حيثُ رآها مدربُهُ والذي على الفور سألها “شو رأيك تلعبي معانا؟” .. في البدء، استهجنت إيمان الأمر “ألعب كاراتيه إزاي؟” إلا أن ذلك لم يمنعها من أن تفتحَ أبوابها للمحاولة، وأن تقوم بتجربة هذه الرياضة. سارت الأمور بسرعةٍ غريبة، أحبّت الرياضة، وأحبّت ممارستها وفوائدها عليها، وبعد شهرٍ ونصف من التدريب، استطاعت أن تدخل أول إختبارٍ فيها، وهنا حصلت المفارقة، فقد ظنّها المُختَبِرُ أنها تقدّم عرضاً على الكرسي المتحرك، ولم تدركْ بعدها إلا أنها أول إمرأة تمارسُ الكارتيه على الكرسي المتحرك في الشرق الأوسط والعالم العربي أجمع. أدركت حينها أنها أمام مسؤولية إتجاه اللعبة التي أحبتها من ناحية، وإتجاه رسالةٍ تحملها وعليها إيصالها، والمتمثلة في أن هذا الكرسي المتحرك ليس عائقاً، وأن الإعاقة ليست معيقة.

بعد ثلاثة أشهرٍ من التدريب المتواصل، شاركت إيمان في بطولة الجيزة بحزامها الأصفر، وحصلت على الميدالية الذهبية فيها. استطاعت بعد ذلك أن تدخل بطولة الجمهورية بالحزام البرتقالي، وأن تحقق المركز الأول فيها. وحتى اليوم، استطاعت أن تحصل على ستة ميدالياتٍ في رياضة الكاراتيه، وعلى 8 أحزمة مختلفة، وذلك في أقل من سنتين. واليوم، فإنها تسيرُ واثقةً ومؤمنة نحو حلمِها أن تكون أول مدربةٍ للكاراتيه في العالم للأشخاص ذوي الإعاقة، وأن تكوّنَ فريقاً للكاراتيه منهم يستطيعُ المنافسة عالمياً.

كانت عندما تذهبُ لأمِها قائلة “المجتمع مش قادر يحتويني ويستوعبني”، تجيبها الأم “إفرضي نفسك عليه!” .. استطاعت إيمان أن تفرِض ذاتها بإيمانٍ وقوة، واستطاعت أن تُري العالم أن الإعاقة “طاقة” مفتوحٌ مصراعيها، إما أن تختارَ الإختباء وراءها، أو أن تجتازها، فتحلّقَ وتطير.