شارع المُتنبي: الجزيرة التي يلجأ إليها المثقفون العراقيون هرباً من ضجيج واقع العراق

يُعد شارع المتنبي الصرح الثقافي الكبير في العاصمة العراقية بغداد إرثا عباسيا هاما، حيث يقع الشارع في وسط بغداد بالقرب من منطقة الميدان وشارع الرشيد. ويُعتبر الشارع من أهم مراكز بيع الكتب في العراق إذ تباع فيه الكتب بمُختلف أنواعها سيما الكتب الأدبية والفكرية المتوفرة بلغات متعددة، وكذلك تباع فيه القرطاسية وكل ما يهم القرّاء والمثقفين. يوجد في الشارع مطبعة تعود جذورها إلى القرن التاسع عشر، ومن أهم مكتباتهِ الأولى مكتبة المثنى والنهضة والمكتبة العصرية، كما يحتوي على عدد من المكتبات التي تضم كتباً ومخطوطات نادرة.

تمثال المتنبي

كعادتهِ في كل جمعة، يجذُب الشارع رواده من المُثقَفين والأدباء والشعراء والموسيقيين والفنانين وكذلك كل المهتمين بالقراءة والمطالعة، حيث يُعد المُلتقى الثقافي الأسبوعي لهؤلاء وتحديداً في بناية القشلة، ليعيشوا على بساطهِ أجواء الفن والموسيقى. وبين أصقاع أكداس من الكتب التي تمتد على طول امتداد الشارع يتبادل الزائرون الحوارات الفكرية والأدبية الشفافة والحرة البعيدة كل البعد عن الخلافات السياسية والتوجيهية والطائفية التي آذت العراق، وكذلك بعيداً عن المسميات العرقية والدينية التي ليس لها سوق ولا تصغي لها اُذن ولا يُقرأ لها سطر في هذا المَخرج الثقافي السامِي. ويُحسب شارع المُتنبي على أنهُ كنز ثقافي وفكري للعراق وللعالم العربي والعالم، فإن كان يدور في خاطرك سؤال أو تساؤل حول الثقافة والعلوم الفكرية، فقط اتجه إلى المُتنبي وستجد مَنْ هُم على أهبة الاستعداد ليجيبوا عما يدور في خاطرك.

تناوبت على هذا الشارع أسماء عديدة منذُ تأسيسه في زمن العباسيين، فقد بدأ بـ(درب القلغ) و(سوق السراي) وشارع (حسن باشا)، وسبب تسميتهِ حسن باشا هو افتتاحه للمرة الأولى على يد القائد العثماني حسن ليكون مسلكاً يذهبُ من خلالهِ إلى جامع السراي، وفي زمن العثمانيين تحول اسم الشارع إلى (الأكمك خانة) وأخيراً سماهُ الملك غازي عام 1932 بالاسم الحالي نسبة إلى أبي الطيب المُتنبي.

مبنى القشلة

تُعتبر القشلة –اسم أحد المباني البغدادية القديمة- زينة شارع المُتنبي، وتعني المعسكر الشتوي الذي بُني في عهد الدولة العثمانية على ضفاف نهر دجلة عام 1852 على أركان السراي في زمن الوالي مدحت باشا، حيثُ بناها من طابق واحد وهدم سور بغداد وأخذ طابوقهُ لبناء القشلة وساعتِها الشهيرة التي كانت تدق لإيقاظ الجنود. وكانت القشلة مبنى المحاكم المدنية قديماً وهي المدرسة الموفقية التي بناها موفق الخادم، وكانت هذهِ المدرسة في موقع مبنى القشلة الحالي.

كانت القشلة والبنايات المُحيطة بها من هذا الشارع المركز الإداري للدولة العثمانية ومؤسساتها حتى العهد الملكي، حيثُ تم تتويج الملك فيصل فيهِ ملكاً على العراق؛ فأسهم في تأسيس وزارة العدلية والداخلية والمعارف والأشغال والمواصلات ومجلس الوزراء فأصبح الشارع مركز الحكومة الملكية التي استمرت إلى 14 يوليو (تموز) عام 1958، إذ انتقلت الحكومة مِن هذا الشارع وأُهملت تلك الأبنية بعد بروز العهد الجمهوري. ويقع مقهى الشابندر في نهاية شارع المتنبي حيث يُعتبر أيضاً من المباني التراثية القديمة.

مقهى الشابندر

لم تسلم الكتب والورق من الهجمات الهمجية التي أصابت العراق ما بعد عام 2003، حيث تعرض الشارع في يوم 5 مارس 2007 إلى حادث تفجير سيارة مُلغمة أودت بحياة 30 شخصاً، بالإضافة إلى احتراق الكثير من ممتلكات الشارع ومنها المكتبة العصرية الشهيرة التي تأسست في 1908، وكذلك مقهى الشابندر الذي دُمر بالكامل. لكن بجهود الخيّرين من الهيئة العراقية الأهلية المُهتمة بمجال الثقافة وتعاونهم مع لجان حكومية تم ترميم الشارع لتعود لهُ الأمجاد بعد افتتاحهِ في 18 ديسمبر 2008. وبما أن الثقافة ليست حكراً على مجتمع أو فرد، جيشت تلك الحادثة المأساوية عواطف المثقفين من حول العالم، فقد تشكل تحالف عالمي من 130 فنان من ضمنهم أسماء لامعة من دول المنطقة بهدف إنشاء أعمال فنية عن شارع المتنبي، كما يُعقد في كل عام في الخامس من مارس ندوات ثقافية وعروض فنية وسينمائية في العديد من مدن العالم تخليداً للذكرى المأساوية التي أوجعت المُتنبي.

وتأمل الطبقة المثقفة من العراقيين أن يعم الأمن والأمان في أرجاء العاصمة بغداد ليتسنى لأقرانهم من المُثقفين من باقي دول العالم من الثقافات زيارة هذا الصرح الثقافي الكبير الذي مرت على ظلالهِ ثقافات مُتعددة منذُ زمن بعيد، وكذلك لتعود بغداد عاصمة دار الحكمة والرشيد إلى أمجادها الأولى.